مصر التي في خاطري الجزء (٣).. بقلم محمد أبوتليح

مصر التي في خاطري الجزء (٣).. بقلم محمد أبوتليح
مصر كلمة غالية لبلد كريم، كرمه رب العالمين، وعظم قدرها وشرفها على بلاد العالمين بعد مكة والمدينة، فلا يعرف قدر مصر إلا كل مؤمن صادق، ولا ينظر إليها على أنها حفنة من تراب، أو أنها بلد عادي كسائر البلاد، إلا ختار منافق.
ويدلك على عظم قدر مصرنا الحبيبة عند الله تعالى، تكرار ذكرها، إما تصريحا أو إشارة، كما جاء في القرآن الكريم، وإن كل مؤمن صادق يعلم أن الله تعالى قد شرف الحرمين مكة والمدينة على سائر البلاد، وجعل في التشريف بعدهما مصرنا الغالية العزيزة، وسبحان ربي إذا تأملنا في ذكر البلاد في القرآن، تجد أن مصر في الذكر حازت التشريف بذكرها في كلام ربها، بحوالي أكثر من ثلاثين مرة، إما تصريحا، وإما إشارة.
فمثلا ذكر مكة والمدينة في القرآن، جاء في عدة مواضع قليلة، مع اعتقاد تقديمهما على مصر وسائر البلاد، لكونهما حرمين شريفين:
ذكر مكة في القرآن:
وردت بلفظة: (مكة)، مرة واحدة في قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24]، وذُكِرت مكة المكرمة أيضًا بلفظ: (البلد الأمين)، في قول الله عز وجل: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]؛ يعني مكة؛ قاله ابن عباس ومجاهد، وعكرمة والحسن، وإبراهيم النخعي، وابن زيد، وكعب الأحبار.
كما ذُكِرت مرة أخرى بلفظ: (بكة)، في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96]؛ ويعني الكعبة المشرفة.
كما ذُكِرت بلفظة: (أم القرى)، مرتين في قوله سبحانه: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92].
وفي قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]
ذكر المدينة المشرفة في القرآن:
وردت بلفظ المدينة أربع مرات؛ مرتين في سورة التوبة الأولى في قوله عز وجل: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101]، والمرة الثانية في قوله عز وجل:{ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} [التوبة: 120]، وأما المرة الثالثة ففي قوله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب: 60]، وأما المرة الرابعة ففي قوله عز وجل: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8].
وورد ذكر المدينة المنورة بلفظ: (يثرب) مرة واحدة في القرآن الكريم، وكان يُطلَق عليها قبل أن تسمَّى بالمدينة، في قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13]، وورد ذكرها بلفظة: (الدار والإيمان)، مرة واحدة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9].
ذكر مصر في القرآن:
قال ابن زولاق: “ذكرت مصر في القرآن في ثمانية وعشرين موضعا”.
وأجابه السيوطي رحمه الله، فقال: “بل أكثر من ثلاثين”. وأخذ يذكر مواضع ذكرها:
في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61]، وقرئ: “اهبطوا مصرَ” بلا تنوين، فعلى هذا هي مصر المعروفة قطعًا، وعلى قراءة التنوين، يحمل ذلك على الصرف اعتبارًا بالمكان؛ كما هو المقرر في العربية في جميع أسماء البلاد، وأنها تذكر وتؤنث، وتصرف وتمنع. وقد أخرج ابن جرير في تفسيره عن أبي العالية في قوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا} قال: يعني مصر فرعون. وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [ يونس: 87] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف:21]، وقال تعالى: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99]، وقال سبحانه حكاية عن فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].
وسماها: (المدينة)، فقال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف:30]، وقال تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [ القصص: 15]، وقال تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:18]، وقال تعالى:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20]، أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن السدي أن المدينة في هذه الآية: (منف)، وكان فرعون بها.
وسماها: (ربوة ذات قرار ومعين)، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50]، أخرج ابن أبي حاتم، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية، قال: “هي مصر”، قال: وليس الرُّبا إلا بمصر، والماء حين يرسل، تكون الربا عليها القرى، ولولا الربا لغرقت القرى”. وأخرج ابن المنذر في تفسيره، عن وهب بن منبه، في قوله: {إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}، قال: “مصر”.
وسماها: (خزائن الأرض)، وقيل فيها قديما: “مصر مأوى العباد، ومدد البلاد، وخزائن الأرض، إن جاعت الدنيا فلا تجوع مصر”. قال تعالى حكايةً عن يوسف عليه السلام:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55].
وسماها: (الأرض)، إشارة إلى كمالها في خيراتها، وحسن تربتها وزروعها، وكنوزها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف:56]، وقال تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80]، قال ابن جرير: أي لن أفارق الأرض التي أنا بها -وهي مصر- حتى يأذن لي أبي بالخروج منها. وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص:4]، وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [ القصص: 5]، وقال تعالى: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} [القصص:19]، وقال: {لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} [غافر:29]، وقال: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، وقال تعالى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}، إلى قوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وإلى قوله: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}[الأعراف:127 – 129]. فالمراد بالأرض في هذه الآيات كلها مصر. وقال تعالى في سورتي الأعراف والشعراء: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ}.
وسماها: (جنات، وعيون، وكنوز، وزروع، ومقام كريم، ونعمة)، فقال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 57-58]. وقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25 – 27]، قال الكندي: “لا يعلم بلد في أقطار الأرض أثنى الله عليه في القرآن بمثل هذا الثناء، ولا وصفه بمثل هذا الوصف، ولا شهد له بالكرم غير مصر”.
وسمهاه: (مبوأ الصدق)، فقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس:93]، أورده ابن زولاق. وقال القرطبي في تفسيره: “أي منزل صدق محمود مختار، يعني مصر”.
وسماها: (ربوة)، وضرب بها المثل في الجمال، فقال تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة:265]، أورده ابن زولاق، وقال: “الرُّبا لا تكون إلا بمصر”.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة: 27]، قال قوم: “هي مصر”، وقواه ابن كثير في تفسيره.
وقال تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر:8]، قال محمد بن كعب القرظي: “هي الإسكندرية”.
وقال الكندي: “قال الله تعالى حكايةً عن يوسف عليه الصلاة والسلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، فجعل الشام بدوًا؛ وسمى مصر: (مصرًا، ومدينةً).
فائدة:
في ذكر ما اشتهر على الألسنة في قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أنها مصر عن قول ضعيف في قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145]، أنها مصر؛ وقد نص ابن الصلاح وغيره على أن ذلك غلط نشأ من تصحيف؛ وإنما الوارد عن مجاهد وغيره من مفسري السلف: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}، قال: “مصيرهم”؛ فصحف إلى مصر.
فحق لنا أن نتيه فخرا وعزا، أن شرفنا الله تعالى بأننا من أهل هذا الوطن الشريف، الكريم القدر عند الله. وإلى لقاء.




