محمد أبوتليح يكتب . التوحيد في الحضارةِ المصريةِ القديمةِ: ما بين شهادات التاريخ، وما نطقت به الآثار

محمد أبوتليح يكتب . التوحيد في الحضارةِ المصريةِ القديمةِ: ما بين شهادات التاريخ، وما نطقت به الآثار
إنَّ الإيمانَ باللهِ الواحدِ الأحدِ ليسْ وحيًا خاصًّا بقومٍ دونَ قومٍ، بل هو فطرةٌ إنسانيةٌ أودعها الخالقُ في كلِّ نسلٍ، وأرسلَ إليها الرسلَ ليُحيوا ما انطفأ، ويُصلحوا ما فسد. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ*) (النحل: 36)).
فمصرُ، كأيِّ أمةٍ من الأممِ، لم تكنْ معزولةً عن نورِ الرسالاتِ، بل كانتْ مسرحًا لرسالاتٍ إلهيةٍ، تُؤكِّدُها نصوصُ القرآنِ، وتُثبتُها وقائعُ التاريخِ، وتُصدِّقُها شهاداتُ المكتشفينَ والمؤرخينَ، سواءٌ من المسلمينَ القدامى أو من الغربيينَ المعاصرينَ.
وقد قالَ النبيُّ ﷺ: «كُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» (رواهُ مسلم)،
فإذا كانَ النبيُّ ﷺ هو خاتمُ المرسلينَ، وكتن قبلَهُ أنبياءُ كثيرونَ، ومنهم من أُرسلَ إلى أرضِ النيلِ
.
شهاداتُ المؤرخينَ المسلمينَ القدامى: إدريس عليهِ السلامُ وآثارُ التوحيدِ:
لقد أكّدَ العلماءُ المسلمونَ الأوائلُ، بمنهجٍ علميٍّ رصينٍ، وجودَ أنبياءَ في مصرَ قبلَ الفراعنةِ، وخصوصًا النبيَّ إدريسَ عليهِ السلامُ الذي يُعدُّ أولَ من خطَّ بالقلمِ، وأولَ من خاطَ الثيابَ، وأولُ من علّمَ العلومَ الكونيةَ في أرضِ مصرَ.
ففي كتابِهِ: (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة)، يقولُ الإمامُ السيوطيُّ: “وقد كانَ في مصرَ من الأنبياءِ من لم يُذكرْ اسمُهُ في القرآنِ، ومنهم إدريسُ عليهِ السلامُ”.
وقيل: إنه قد بُنيَ معبد إدفو، وكتبَ على جدرانِهِ: ‘لا إلهَ إلا اللهُ’ بحروفٍ لغتهم، وصور فيه صورا تظل على التوحيد، ومنها صورة رجل يتخذ وضعية جلسة التشهد التي تعرف في صلاتنا، وكتب ما هو ترجمته صابئ،ف والصابئة في أساسها ديانة توحيد سماوية، غير أنها أصابها التحريف كغيرها، ولا تزال منها باقية في العراق وغيره حول العالم، وقد ذكرت في القرآن:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62)
.
وقد أكّدَ الدكتورُ نديم السيّارُ — في كتابِهِ : (قدماء المصريين أول الموحدين)، دراسةٌ إسلاميةٌ لآثارِ التوحيدِ، وذكر أنَّ رموزَ الشمسِ في معابدِ إدفو والكرنكَ ليستْ عبادةً للشمسِ كما يُدَّعى، بل هي رمزٌ إشاريٌّ للنورِ الإلهيِّ.
فما كانوا يُصوّرون الشمسَ كإلهٍ، بل كمَظهرٍ من مظاهرِ النورِ الإلهيِّ،.
وقد تأكّدَ هذا المعنىُ من خلالِ اكتشافاتٍ حديثةٍ في وادي الملوكِ، لا سيما في مقبرة توت عنخ آمون، حيثُ وُجدَ على جدرانِها نصوصٌ من كتاب الموتى تُشيرُ إلى مفهومٍ مركّبٍ من “النورِ الإلهيِّ” و”الحياةِ الأبديةِ” التي تُمنحُ فقط لمن عَبَدَ الإلهَ الواحدَ، واتَّبعَ طريقَ الحقِّ.
فالمستشرقُ البريطانيُّ **د. جيمس هنري برستيد**، في كتابِهِ **”أبحاثٌ في تاريخِ مصرَ القديمةِ”**، يعترفُ:
> “إنَّ النصوصَ الدينيةَ في مصرَ القديمةِ لا تُمثّلُ وثنيةً بحتةً، بل تُظهرُ تطورًا فكريًّا نحوَ فكرةِ إلهٍ واحدٍ مطلقٍ، مُتَّحِدٍ في الجوهرِ، رغمَ استخدامِ الرموزِ المتعددةِ”.
بالإضافة إلى أنَّ بعضَ النصوصِ في مقبرةِ الملكِ أخناتون فيما يعرف بأناشيد أخناتون والتي تدل على وجود التوحيد قديما في مصر
مجّد أخناتون إلهه الواحد في نشيد عن أنواره التي تعمّ الوجود، بقوله: “أنت العالم بأسرار الحياة، تظهر بجمالك في آفاق السماء، تشرق في الارجاء فتملأ الأرض بجمالك، أنت الجميل العظيم البهي، الذي تسطع أنوارك على وجه الأرض، وتحيط اشعتك كل أقطارك التي خلقتها وملكتها بحبك، مهما بعدت عنا فأشعتك مالئة الأرض كلها”.
ووجد ايضا ضمن ترانيمه قوله: أيها الإله الأوحد، الذي لا شبيه له، خلقت الدنيا كما شئت عندما كنت وحدك، والناس والماشية الكبيرة والصغيرة وكل ما على الأرض يسعى على قدميه، وكل ما يرتفع (في السماء) ويطير بأجنحته”.
وهذا ما دونه العالم الفرنسي روبير-جاك تيبو في دراسته “معجم الأساطير والرموز المصرية” في مادة “إله (واحد)” إلى أن يقول: “قطعا لم يتجه ملوك مصر وشعبها بتعبدهم نحو مجموعة من الآلهة (الوثنية كما يعتقد البعض). بل على النقيض، عبدوا إلها واحدا، خالق الأرض: إنه إله صانع فخار، شكّل خلقه بالطين الصلصالي ومياه النيل، بعد ذلك نفث فيه من روحه”.
قلت: والدليل الذي هو أوضح من نور الشمس في رابعة النهار ، ما أثبته الله تعالى في القرآن إشارة إلى توحيد المصريين القدماء، ومعرفة الصلاة والسجود، وهذا قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} ۩ (الإسراء: 109)
فإننا لم نشاهد آثار حضارة قديمة فيها هيئة السجود على الأذقان، إلا في الحضارة المصرية القديمة ، وأظن أن هذا دليل كاف في هذه المسألة.
وما خفي ولم يظهر لنا إلى الآن أعظم .
وإلى لقاء يتجدد إن شاء الله.




