اخبار مصرمقالات

إسرائيل… «مجنيٌّ عليها» أم أداة استعمارية؟

كتب
عاطف لبيب النجمي

قراءة تاريخية في وعد بلفور وصناعة “الشرطي” في المنطقة العربية

في لحظة انسحاب الاستعمار التقليدي من المنطقة العربية، لم يكن خروج بريطانيا وفرنسا من الشرق الأوسط سوى تحوّلٍ في الشكل لا في المضمون. فالاستعمار الذي كان يحتل الأرض مباشرة، قرر أن يترك خلفه «قوّة وظيفية» تضمن استمرار تفتيت المنطقة وضمان تبعيتها الاقتصادية والسياسية.
ومن هنا يمكن فهم كيف جاء وعد بلفور عام 1917 كأداة سياسية متقدمة في مشروع استعماري جديد بأسلوب جديد

أولاً: من «الانتداب» إلى «التمكين» — الدور البريطاني في صناعة الكيان

لم يكن وعد بلفور مجرد رسالة من اللورد آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد، بل كان وثيقة استراتيجية صيغت بعد مداولات داخل الحكومة البريطانية، شارك فيها وزير الخارجية بلفور ورئيس الوزراء لويد جورج، وبتنسيق مع الحركة الصهيونية التي مثّلها آنذاك حاييم وايزمان.
وقد أكد المؤرخ البريطاني ديفيد فرومكين في كتابه Peace to End All Peace أن بريطانيا رأت في المشروع الصهيوني «أداة لضمان نفوذ دائم في منطقة قناة السويس وشرق المتوسط» بعد تراجع قدرتها على الإدارة المباشرة.

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى وبدء الانتداب البريطاني على فلسطين (1920–1948)، تحوّل الوعد إلى سياسة رسمية:

فتحت بريطانيا باب الهجرة اليهودية المنظمة (بدءًا من «الكتاب الأبيض» لعام 1922).

سلّحت الوكالة اليهودية وأمدّتها بتراخيص لتأسيس قوات مسلحة محلية، منها منظمة الهاجاناه التي نشأت تحت حماية الانتداب.

بينما قمعت المقاومة العربية الفلسطينية (ثورة 1936–1939) بعنف، وأعدمت عشرات القادة الوطنيين، ما مهّد لتفوقٍ عسكري يهودي لاحقًا.

كل ذلك يوضح أن بريطانيا لم تكن راعية سلام بل راعية تكوين قوة جديدة تؤدي وظيفة محددة في مسرح الشرق الأوسط.
ثانيًا: الكيان «الشرطي» — وظيفة إسرائيل في الرؤية الاستعمارية

لم يكن الهدف من إنشاء إسرائيل تحقيق حلمٍ ديني أو قومي بقدر ما كان تجسيداً لمفهوم “الدولة الوظيفية” — أي دولة تؤدي دوراً أمنياً واقتصادياً يخدم مصالح قوى خارجية.
ففي وثائق وزارة المستعمرات البريطانية لعام 1939، وردت توصية صريحة بأن «الوجود اليهودي المنظم في فلسطين سيكون ضمانة استراتيجية لبريطانيا في وجه التطلعات العربية المستقبلية للوحدة أو الاستقلال».

ثم جاء الدعم الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية ليُكمل الدور نفسه:

ففي عام 1945، كتب الرئيس الأمريكي هاري ترومان في مذكرة لمستشاريه أن «قيام دولة يهودية قوية في فلسطين سيضمن وجود حليف استراتيجي موثوق به في قلب الشرق الأوسط».

وفي عام 1956، خلال العدوان الثلاثي على مصر، تحالفت إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا ضد نظام عبد الناصر الذي رفع شعار القومية العربية والوحدة.
ذلك التحالف كان أول اختبار علني لوظيفة إسرائيل كـ«الشرطي الإقليمي» الذي يتدخل لضبط أي مشروع عربي تحرري يهدد مصالح الغرب.
ثالثًا: شوكة في خاصرة العرب… ولكن تحت السيطرة

رغم ما تمتلكه إسرائيل من تفوقٍ عسكري وتقني، فإن القوى الكبرى — وخاصة الولايات المتحدة — لم تسمح لها بالتحول إلى قوة مستقلة عن إرادتها.

فكل توسع عسكري إسرائيلي (من 1967 إلى اليوم) كان يخضع لمعادلة دقيقة: انتصارٌ لا يُترجم إلى استقلال.
حتى في أوج قوتها بعد حرب يونيو 1967، ظل قرارها السياسي مرتهناً بالدعم الأمريكي، سواء في التمويل أو التسليح أو الحماية الدبلوماسية في مجلس الأمن.

هكذا ضمنت القوى الغربية أن تبقى إسرائيل «قوية بما يكفي لردع العرب، وضعيفة بما يكفي للبقاء تحت المظلّة الغربية».
إنها معادلة «الشوكة المزروعة»: تؤلم، لكنها لا تتحرر من اليد التي غرستها.
رابعًا: الصراع الدائم… ضمانة الاستعمار الجديد

لكي تستمر هذه المعادلة، كان لابد أن يبقى الصراع العربي–الإسرائيلي مفتوحاً بلا حل نهائي.
فالصراع يمنح الغرب ذريعة دائمة للبقاء السياسي والعسكري في المنطقة.
ويمنح إسرائيل شرعية دائمة داخل مجتمعها الذي لا يعيش إلا على «الخطر الوجودي».

منذ 1948 حتى اليوم، لم تشهد المنطقة أكثر من هدنات مؤقتة، وكل اتفاق سلام (من كامب ديفيد إلى أوسلو) لم يكن سوى إدارةٍ للصراع لا إنهائه.
بهذا المعنى، فإن استمرار التوتر ليس إخفاقاً بل جزء من التصميم الأصلي للمنظومة التي نشأت في القرن العشرين على أنقاض الاستعمار المباشر.
وحين نقول إن «إسرائيل مجنيٌّ عليها»، فالمقصود أنها — رغم قوتها الظاهرة — نتاج هندسة استعمارية أكبر منها، ووجودها مشروط بوظيفة لا يمكنها الفكاك منها.
فهي خُلقت لتكون «شرطياً» يضبط محيطه، لا «إمبراطورية» تتجاوزه.
وهكذا ظلّت المنطقة العربية — منذ وعد بلفور حتى اليوم — ساحةً لصراعٍ دائم، لا يُراد له أن ينتهي، لأن في استمراره بقاء مصالح الغرب واستمرار تبعية الشرق.

تم نسخ الرابط بنجاح!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى