تنمية بشرية

مفتي الجمهورية: الحاجة للاجتهاد ترجع إلى تغير الزمان والمكان والعرف وتطور المعاملات الحديثة

 

أمير أبورفاعي 

ألقى فضيلة أ.د نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، محاضرة ضمن فعاليات البرنامج التدريبي لوفد من القضاة الشرعيين من دولة ماليزيا، والذي ينظمه المركز القومي للدراسات القضائية بمقر المركز بالعباسية، وذلك بحضور المستشار الدكتور مجدي سلامة دياب، مساعد وزير العدل لشئون المركز القومي للدراسات القضائية.

وتناولت المحاضرة موضوع «اجتهاد القاضي في مواجهة تحديات العصر والتعامل مع المستجدات الحادثة والنوازل المعاصرة» وأكد فضيلة المفتي أن هذا الموضوع يُعد من الموضوعات المهمة التي تُعتبر من أوجب الواجبات، فهو ضرورة حياتية وفريضة دينية، نظرًا لتعدد الدوافع الداعية إلى الاجتها، موضحًا أن من أبرز هذه الدوافع طبيعة الشريعة الإسلامية التي خُتمت بها الديانات السماوية، إذ تتميز بالشمول والمرونة وتجاوز حدود الزمان والمكان لتناسب جميع الناس على اختلافهم. كما أن القرآن الكريم جاء كتابًا تامًّا عامًا مناسبًا لكل الأفهام والعصور، حيث أودع الله فيه قواعد كلية عامة، دون الانشغال بالتفاصيل والجزئيات، تاركًا للناس مهمة تنزيل هذه القواعد على واقعهم بما يتفق مع أحوالهم وظروفهم، ومثال ذلك قضية الخلافة أو الإمامة؛ حيث لم يفرض النص الشرعي شكلًا محددًا للحكم، وإنما وضع قاعدة عامة هي مبدأ الشورى، الذي يختلف تطبيقه باختلاف العصور، شريطة عدم الخروج عن أصول الشريعة وقواعدها الكلية.

وأضاف فضيلة المفتي أن الدافع الآخر للاجتهاد يتمثل في التحولات السريعة والأحداث المتلاحقة التي يموج بها العالم، مشيرًا إلى أن النصوص الشرعية محدودة، بينما الوقائع والنوازل غير محدودة، ومن أبرز القضايا المعاصرة التي تستلزم الاجتهاد، الحقن المجهري وتحديد نوع الجنين، تصحيح الجنس، جراحات التجميل، التجارة الإلكترونية، والملكية الفكرية، موضحًا أن النوازل القضائية نوعان، نوازل لها نصوص شرعية أو قانونية تحكمها، وأخرى لا نص فيها، وهنا يأتي دور القياس، مستشهدًا بما فعله النبي ﷺ مع معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه إلى اليمن.

وبيّن فضيلته أن الاجتهاد على الرغم من ضرورته، قد يكون سلاحًا خطيرًا إن لم يمتلك صاحبه الأدوات العلمية والمنهجية التي تُعينه على ممارسته بشكل صحيح؛ إذ قد يؤدي التساهل إلى إنكار ثوابت الدين، بينما يقود التشدد إلى التنفير والحرج. وضرب أمثلة من اجتهادات النبي ﷺ لتعليم أصحابه، مؤكدًا أن اجتهاد القاضي يعني النظر والتأمل لإيجاد حكم شرعي أو قانوني عند غياب النص، بشرط التزام الفكر اليقظ والموضوعية والعدل.

وأشار فضيلة المفتي إلى أن أهمية الاجتهاد القضائي تتمثل في عدة أمور، أبرزها: سد الفجوة التشريعية نظرًا لتعدد القضايا، تحقيق العدالة من خلال تطبيق روح القانون لا حرفيته، تطوير المنظومة القانونية عبر اجتهادات رصينة تتحول مع الوقت إلى سوابق ومبادئ قضائية، وتعزيز الثقة بين القضاء، والرأي العام كما أوضح فضيلته أن الحاجة للاجتهاد ترجع إلى تغير الزمان والمكان والعرف، وتطور المعاملات الحديثة، مثل الجرائم الإلكترونية والمعاملات البنكية وقوانين الملكية الفكرية، إضافةً إلى مرونة النصوص الشرعية، ومسؤولية القاضي في تحقيق العدل.

وركز فضيلة المفتي على المنهج الذي ينبغي أن يسلكه القاضي في التعامل مع النوازل، مشددًا على عدة أمور، منها الرجوع إلى النصوص الشرعية وتقديم الكتاب والسنة، مع التمسك بالقطعيات، والاعتماد على الإجماع والقياس، ومراعاة القواعد الكلية مثل: الأمور بمقاصدها، اليقين لا يزول بالشك، المشقة تجلب التيسير، الضرر يزال، العادة محكمة، واستحضار مقاصد الشريعة الخمسة، حفظ الدين، النفس، العقل، النسل، المال، مع الترجيح بين المصالح والمفاسد، والاستفادة من خبرات أهل الاختصاص كالتقارير الطبية والتقنية، إذ إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والموازنة بين الفقه والقانون بما لا يخالف الشرع.

كما أوضح فضيلة المفتي أن للاجتهاد القضائي ضوابط أساسية، منها: الأهلية العلمية للقاضي وإحاطته بالفقه وأصوله واللغة وأحكام القضاء، التجرد والعدل والبعد عن الأهواء، الالتزام بالنصوص القطعية والإجماعات فلا اجتهاد مع وجود نص أو إجماع، الاجتهاد في ضوء الأنظمة المرعية ما دامت لا تخالف الشرع، الاحتياط الشديد في الدماء والأعراض والأموال امتثالًا لقوله ﷺ: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»، الاستناد إلى الأصول الفقهية والقانونية، وأخيرًا تحقيق المصلحة المشروعة في إطار المقاصد الكبرى للشريعة والنظام العام.

واختتم فضيلة المفتي محاضرته بتوضيح العلاقة بين العقل والنقل، مستشهدًا بقول الراغب الأصفهاني: «لله إلى خلقه رسولان: أحدهما من الباطن وهو العقل، والآخر من الظاهر وهو الرسول؛ ولا سبيل للانتفاع بالرسول الظاهر إلا بتقديم الانتفاع بالباطن». وأكد أن العقل يعرف صحة دعوى الرسول، ولولاه لما لزمت الحجة، ولذا جعل الله الرجوع إليه سبيلًا للتحقق من وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه، وخَلُص إلى أن العقل قائد والدين مدد، فالعقل بلا دين يصبح حائرًا، والدين بلا عقل لا يبقى، واجتماعهما كما وصف القرآن الكريم: «نورٌ على نورٍ».

تم نسخ الرابط بنجاح!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى